في الوقت الذي قسّم فيه الصراع السياسي ليبيا إلى شرق وغرب، جاءت فيضانات درنة لتجرف النَزعات الجهوية والقبلية، ولتكشف عمق الترابط الاجتماعي والوجداني بين أبناء الوطن الواحد.
وتجلى هذا التلاحم في المساعدات التي جمعها سكان وهيئات وحتى كتائب المدن الغربية لنقلها إلى إخوانهم في الشرق، بعدما كان الليبيون بالأمس القريب لا يلتقون إلا في ساحات المعارك.
محنة ومنحة
فرغم حقول الألغام، ومقاتلين متربصين على الطرف الآخر من الجبهة، وحكومتان تتنازعان الشرعية، إلا أن ذلك لم يمنع مدن المنطقة الغربية من إطلاق قوافل المساعدات إلى مدينة درنة (1350 كلم شرق طرابلس) غير آبهين بالخطوط الحمراء الموضوعة أمامهم، وتعقيدات الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية (القبلية).
وفي هذا الصدد، قال وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي، “هناك حالة من الوحدة والتعاضد نسجها الليبيون في هذه المحنة، رغم مأساوية الوضع وحجم الكارثة”.
وكشف اللافي، في مؤتمر صحفي بطرابلس، الخميس، أنه “سيكون هناك حملة إعلامية موحدة، وبث موحد ومشترك، عبر 9 قنوات تلفزيونية عامة وخاصة، وعشرات الإذاعات ومواقع التواصل، للتضامن مع أهلنا في درنة والجبل الأخضر”.
قوافل الإغاثة لم تتوقف
كان البعض يتوجس من أن تمنع قوات الشرق التي يقودها خليفة حفتر، قوافل المساعدات القادمة من مدن الغرب الليبي من اجتياز خط “سرت – الجفرة” الأمني، لكن وفق مصادر رسمية فإن عدة قوافل تمكنت من الوصول إلى الشرق وشرعت في عمليات الإغاثة، رغم التشديد الأمني، الذي يعيق تدفق المساعدات بالسرعة المطلوبة.
وفي هذا الصدد، نشرت منصة “حكومتنا”، التابعة لحكومة الوحدة، الخميس، فيديو يظهر وصول قوافل الدعم التابعة للشركة العامة للكهرباء بالعاصمة طرابلس إلى مدينة أجدابيا (750 كلم شرق طرابلس) متجهة نحو مدن الجبل الأخضر، لمساندة فرق الصيانة في عملها لإعادة الشبكة الكهربائية إلى المناطق المنكوبة.
كما أعلنت وزيرة الشؤون الاجتماعية وفاء الكيلاني، عبر منصة “حكومتنا”، وصول قوافل مساعدات واحتياجات عاجلة للأسر إلى المناطق المتضررة من السيول في شرق البلاد، الأربعاء، أرسلتها الوزارة.
“فزعة” شعبية
لم يقتصر إرسال المساعدات على حكومة الوحدة في طرابلس، بل تداعت عدة مدن في المنطقة الغربية لإرسال إغاثات لدرنة والمناطق المتضررة من الفيضانات، وفتح بيوتهم للنازحين والأيتام.
وفي تدوينة له على فيسبوك، علق رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، على توافد العشرات من الشباب الليبي لمساندة وإغاثة أهالي المناطق المنكوبة، قائلا “دون تردد أو تعذر؛ تنادوا من كل صوب لغوث إخوانهم بما يستطيعون، ليشاركوهم محنتهم ويأخذوا بأيديهم ما استطاعوا. مصابنا واحد وشعبنا واحد يتداعى بعضه لبعض بالتضحية والفداء”.
فبعد أن كان سكان الغرب يتنادون بـ”الفزعة” لتجميع المقاتلين لمواجهة القوات القادمة من الشرق، ها هم اليوم يتنادون بـ”فزعة خوت” لجمع المساعدات كل بما يستطيع لنقلها إلى إخوانهم في الشرق.
فمن مصراتة إلى طرابلس والزاوية وصبراتة وغريان وبني وليد وترهونة يتداعى الشباب للمشاركة في عمليات الإنقاذ و”الفزعة”، بعضهم يعرض شاحنته لنقل المساعدات عليها مجانا، والآخر يتبرع بالوقود، ونساء يبعن حليهن الذهبية للتبرع بها، وآخر يساهم بشرائح هاتفية للمنكوبين، ومن يعرض إيواء المصابين القادمين للعلاج في مدن الغرب.
هل يسقط الجدار الأحمر؟
والمفارقة أن كلا من اللواء 444، بقيادة العقيد محمود حمزة، وقوات الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، أرسلا قافلتي مساعدات، إحداها تحمل أكفانا، بسبب نقصها لكثرة قتلى الفيضان، بحسب ناشطين إعلاميين.
وتكمن المفارقة أن الكتيبتين خاضتا قبل أسابيع قتالا عنيفا في طرابلس، وقبلها شارك عناصرهما في التصدي لقوات حفتر، عندما هاجمت العاصمة (2019-2020)، لكنهما اليوم يفزعان معا لنجدة مدينة خاضعة لعدوهما السابق.
وليس مؤكدا إن كانت قوات حفتر سمحت للقافلتين بالعبور إلى شرق البلاد، أو أنها استلمت منهما الإعانات عبر خط سرت الجفرة، ولكن مجرد المبادرة والتنافس على مساعدة “عدو الأمس”، يعكس أن جدارا سميكا من الخلافات يوشك أن ينهار أمام فيضان الأخوة والتآزر في المحن.
فخط سرت الجفرة، الذي سُمي بـ”الخط الأحمر”، لمنع كتائب الجيش الليبي في المنطقة الغربية من التقدم نحو الشرق بعد انهيار هجوم قوات حفتر في 4 جوان 2020، سرعان ما تحول إلى أشبه بجدار برلين يفصل المنطقتين الشرقية والغربية عن بعضهما البعض.
ورغم اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر 2020، وتشكيل لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، الذي كان من بين مهامها فتح الطرق بين الشرق والغرب، وإزالة الألغام، لكن ذلك لم يحدث إلا في حالات استثنائية، على غرار اجتماع اللجنة العسكرية نفسها في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، أو اجتماع نادر لمجلس النواب بعد إعادة توحيده في سرت في عام 2021.
لكن ما كان استثنائيا، يكاد يصبح واقعا، بفضل قوافل المساعدات من الغرب إلى الشرق والنازحين من الشرق إلى الغرب.
صحيح أن الأمر ليس مثاليا، وهناك أصوات تتعالى منتقدة العراقيل التي تضعها قوات حفتر أمام قوافل المساعدات والتي تتعرض لتفتيش أمني دقيق.
إلا أن مجرد عبور قوافل الإغاثة الجدار الأحمر، ووصولها إلى مناطق تبعد عن طرابلس بمئات الكيلومترات يعد اختراقا لجدار الانقسام الجغرافي والاجتماعي والأمني، والذي أراد له البعض أن يكونا سياسيا أيضا، بمعنى انفصال للشرق عن الغرب.
فما حققه فيضان درنة من كسر لجدار الانقسام، لم تتمكن من تحقيقه لجنة 5+5 العسكرية لنحو ثلاث سنوات من تشكيلها.
وقد لا يحل هذا التضامن بين الإخوة أزمات البلاد السياسية والأمنية، ولكنه يذكر الليبيين أن إمكانية اجتماعهم ببعض وتوحدهم ليس أمرا مستحيلا، وأن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم.
دول في الميدان
الأمر لم يقتصر فقط على الليبيين في تضامنهم مع بعضهم البعض في محنتهم، بل إن دولا مثل تركيا والجزائر وتونس كانت سباقة بإرسال فرق للإغاثة.
وكان المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، حذر، من أن “التحقيقات ستشمل كل مَن قام بتعطيل جهود الاستغاثة الدولية أو وصولها للمدن المنكوبة”.
وتتواجد عدة فرق للبحث والإنقاذ من تركيا والجزائر وتونس وبلدان أخرى في درنة، ولديها من الخبرة والوسائل ما يؤهلها للوصول إلى أحياء وإنقاذهم قبل فوات الأوان، وتقديم العون والمشورة في إدارة هذه الأزمة، خاصة ما تعلق بانتشال الجثث ودفنها، ومكافحة الأوبئة الناتجة عن الفيضان وتداعياته، وإيواء المنكوبين، وتوفير الغذاء والعلاج والعناية النفسية بهم.
والرسالة المستخلصة من مشاركة هذه الدول في عمليات الإنقاذ بالشرق الليبي أن الواجب الإنساني يعلو على أي خلاف سياسي.
ومن شأن الشعب الليبي بفطنته أن يحول محنة الفيضانات إلى منحة للسلام والتآزر لتجاوز الأزمات السياسية كما الطبيعية.