بحلول فصل الربيع تزدان مدينة نابل شمال شرق تونس بأشجارها الموشحة بحبات الزهر البيضاء فتتحول إلى حديقة كبرى تفوح منها الروائح العطرة.
فكل الأزقة والشوارع والساحات أمام المنازل والحدائق الخاصة والعامة لا تخلو من أشجار النارنج التي باتت جزءا من هوية المكان والسكان في المدينة.
والنارنج، أو الزهر كما يسميه أهل المنطقة، شجرة معمرة دائمة الخضرة تنتمي إلى جنس الحمضيات ويصل ارتفاعها إلى عشرة أمتار وثمارها برتقالية وزهورها بيضاء لها رائحة عطرية فواحة.
وفي أواخر شهر مارس وبحلول ماي من كل عام، يغمر عبق النارنج أنحاء ولايةنابل المعروفة أيضا باسم الوطن القبلي في تونس، وتشتهر بصناعة ماء الزهر وتقطيره لاستخراج أثمن ما في الزهور من سوائل مركزة معطرة، يطلق عليها البعض الذهب الشفاف.
وتمتد غراسات النارنج بالوطن القبلي على مساحة 480 هكتارا، وهي مساحات متفرقة ومهددة بالاندثار إذ توجد ما بين 50 إلى 60 شجرة نارنج في الحقل.
كما بلغ معدل الإنتاج السنوي للنارنج خلال المواسم الخمسة الماضية حوالي 2200 طن أنتجت 1400 كيلوغرام من زيت النيرولي في العام.
وزيت النيرولي يستخدم كمادة أساسية في العطور والمنتجات العطرية وفي منتجات ترطيب الجسم.
وقال أحمد بوحنك عضو جمعية صيانة مدينة نابل لوكالة رويترز إن زهرة النارنج قدمت إلى البلاد من الأندلس “ووجدت مزارعها قرب البحر شمال شرق تونس مقاما طيبا حتى أثمرت زهورا بجودة عالية وعالمية يتنافس في الحصول عليها مصنعو العطور عبر العالم”.
وأضاف أن “هذه الحرفة تدر مداخيل هامة على آلاف العائلات التونسية في المنطقة، وتنتعش مداخيلهم سنويا في موسم الربيع بحلول ماء ‘الزهر‘ الذي تنسب تسميته في اللهجة المحلية للإشارة إلى الحظ والتفاؤل”.
وتضم المنطقة 10 وحدات لإنتاج زيت النيرولي الذي يُصدر بالكامل، ويحتاج إنتاج كيلوغرام واحد من زيت النيرولي إلى 600 لتر من الزهر.
ويعد النيرولي التونسي من أجود المنتجات على المستوى العالمي لكنه بدأ يشهد تراجعا في ظل المنافسة الجديدة من الإنتاجين المصري والمغربي في السنوات الماضية.
وأشار بوحنك إلى أن مدينة نابل تحتفي بهذه الزهرة منذ عقود من خلال مهرجان “الزهر” الذي يحل هذا العام في 28 و29 و30 أفريل الجاري حين يجتمع كل العاملين في القطاع من مزارعين وحرفيين ومصنعين لتبادل التجارب والمعرفة.
وأضاف أن هذه الدورة ستكون انطلاقة لإعداد ملف تسجيل تقطير “الزهر” على قائمة منظمة اليونسكو للتراث غير المادي مثلما تم تسجيل “الهريسة التونسية” السنة الماضية.
وتجتمع العائلات وسط أجواء تتخللها الأهازيج والضحكات لجمع المحصول وتقطيره وتتحول البيوت إلى خلايا نحل وتقسم الأدوار فيما بينها احتفاء بالموسم، وهي من العادات التي يعتز بها سكان المنطقة.
ويشير بوحنك إلى أن “نبتة الزهر تحظى بمكانة خاصة في تونس، وتحديدا في منطقة الوطن القبلي، فهي أكثر من مجرد شجرة عادية كونها تتمتع بمكانة اجتماعية واقتصادية مهمة. بالإضافة إلى أنها مورد رزق أكثر من 3000 عائلة فإنها تساهم بشكل كبير في تحريك العجلة الاقتصادية على امتداد شهر واحد من كل عام”.
من ناحيتها، تحدثت رانيا منصور المتخصصة في الموروث الغذائي لمدينة نابل لرويترز عن مشروعها بشغف كبير وكأنها تتحدث عن طفل صغير تراقب نموه وخطواته الأولى بحب.
تقول “بدأت بقطار واحد (وعاء من الطين يستخدم في عملية التقطير)، والآن أصبح لدي ستة والحمد الله يوجد إقبال كبير على منتوجاتي نظرا لتوفر الجودة”.
وأوضحت أن مرحلة التقطير تستمر ساعات طويلة ويستخدم في هذه العملية المتوارثة منذ مئات السنين وعاء طبخ خاص تقليدي يسمى “القطار” الذي يصنع إما من النحاس أو الفخار.
ويتكون هذا الإناء من قسمين هما الجزء السفلي الذي توضع فيه زهرات النارنج ويجب ألا تتجاوز الكمية كيلوغرامين بعد غمرها بالماء الذي لا يزيد عن سبعة لترات، ثم تغطى بجزء علوي يكون على شكل وعاء يوضع فيه الماء ويكون متصلا بأنبوب طويل يخرج منه عطر النارنج أو “ماء الزهر”.
صعوبات عديدة
تم تسجيل تراجع بين 18 و20 بالمئة في محصول النارنج مقارنة بالموسم الماضي بسبب التغيرات المناخية، وفق ما أفاد به رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بنابل عماد الباي لرويترز.
وأكد الباي أن إنتاج الزهر للموسم الحالي قد يصل إلى 2100 طن مقابل 2542 طنا خلال الموسم الماضي، بحسب التقديرات.
ويشهد هذا القطاع، الذي يكتسب أهمية اقتصادية واجتماعية بالمنطقة، تذبذبا على مستوى الأسعار، إذ يتأرجح سعر “الوزنة الواحدة” التي تبلغ أربعة كيلوجرامات بين 30 و40 دينارا.
كما يعاني القطاع من مشكلات أخرى أبرزها اختلال التوازن بين سعر التكلفة، التي تشمل مستلزمات الزراعة والأيدي العاملة، وبين سعر البيع، مما دفع عددا من المزارعين إلى التخلي عن زراعة أشجار النارنج لعدم تمكنهم من تغطية التكاليف.
وطالب الباي بتنظيم هذا القطاع الموسمي الذي يحتاج إلى تطوير “إذ يغلب عليه الطابع التقليدي”.
ودعا أيضا مختلف الأطراف في هذا القطاع من مزارعين وأصحاب مصانع إلى “تغليب المصلحة العامة والنهوض به عبر إبرام اتفاقيات لديمومة هذا القطاع المهدد بالاندثار”.
ورغم أن موسم تقطير زهر النارنج في محافظة نابل ضيف يحط الرحال لبضعة أسابيع فقط، تترك الزهرات البيضاء بعد غيابها مذاقا عذبا من ماء الزهر لبقية العام وتتحول إلى مربى تُعد من حبات النارنج عالية الحموضة أو منتجات جديدة من قشرة الحبة أو من أوراق شجرة الخير.. شجرة النارنج.