على الشارع الفاصل بين حي الكبارية الشعبي بالعاصمة تونس وحي ابن سينا وغير بعيد عن حي الوردية، تنتصب منذ 13 عاما مائدة إفطار لم ينقطع خيرها عن كل مَن يقصدها من الفقراء والمحتاجين.
الحركة تبدأ منذ الصباح الباكر في مطعم علي الهادفي وهو نقطة ارتكاز المائدة.. نساء ورجال وتلامذة متطوعون يعدون أشهى الأطباق التونسية لضيوف الرحمن.
قبل ساعتين من موعد الإفطار التقى مراسل الأناضول مع منظم المائدة سعيد المرابطي وهو ينسق عملية توزيع الوجبات المحمولة وإعداد طاولات الإفطار.
وقال المرابطي للأناضول: “انطلقنا منذ 13 عاما تحت شعار: ما كان لله دام واتصل وما لغيره انقطع وانفصل”.
المرابطي تابع “بدأنا منذ بدايات الثورة، وحاولنا الإحاطة بالعائلات المعوزة ومحدودة الدخل بمنطق الكبارية، وهي منطقة شعبية بالعاصمة تونس والمناطق المحيطة بها”.
وأردف: “حاولنا من خلال هذا العمل إيجاد صيغة أخرى للتكافل وللتضامن الاجتماعيين والعطاء، فأقمنا مائدة إفطار صائم وبدأنا بـ150 وجبة يوميا.. الآن تتطور المائدة إلى ألفي شخص”.
ولئن عُرفت المائدة بأنها “مائدة الكبارية”، فإن المرابطي قال إنها “في ملتقى ثلاثة أحياء شعبية: الكبارية وابن سينا والوردية”.
وأضاف أن “هذه المائدة حاضنة شعبية تأتيها كل الشرائح الاجتماعية من أرامل وفقراء وعابري سبيل من أحياء مجاورة مثل الوردية وجبل جلود وسيدي البشير ومنطقتي المحمدية وفوشانة من ولاية بن عروس (جنوب العاصمة) .
مائدة الشعب
ويلاحظ المار من الشارع الرئيسي الفاصل بين حيي الكبارية وابن سينا انتشار طاولات المائدة على مساحة كبيرة من الشارع حتى أنها امتدت إلى نهج فرعي في حي ابن سينا.
وأمام القائمين على المائدة تحدٍ هذه السنة أوضحه المرابطي بقوله: “نريد تقديم 2000 وجبة بما يعادل 60 ألف وجبة طيلة شهر رمضان.. وشكر خاص للقائمين على المائدة، وخاصة الأخ علي (الهادفي صاحب المطعم التي يتم فيه إعداد الأكلات) والعَمَلة والطهاة”.
واستطرد: “هذه المائدة تقدم ألف وجبة محمولة تُسلم إلى المحتاجين في منازلهم، ويوجد أكثر من 850 كرسيا هنا، ولن يبقى أي جائع في المنطقة خلال شهر رمضان”.
بتواضع، قال علي الهادفي، الشريك الأساسي للمرابطي في تنظيم المائدة، للأناضول: “هذا المحل هو محل الله يقدم وجبة الإفطار للصائمين منذ 2011.. وهدفنا هذا العام الوصول إلى ألفي وجبة (يوميا).. والشكر للتونسيين الذين يدعمون المائدة”.
وشدد الهادفي على أنها “مائدة إفطار الشعب التونسي وليست مائدة أحزاب ولا لجمعيات وليس لنا حساب في البنك، بل لنا أشخاص يقدمون الدعم مباشرة لنا هنا”.
“لمة أولاد الحومة”
وبخصوص تمويل المائدة العملاقة، قال المرابطي إن “مصاريف كبيرة تأتي من “لمة أولاد الحوومة” (التقاء أبناء الحي).. مجموعة من أفضل ما رأيت في هذه المنطقة من الميسورين الذين يُنجحون هذه المائدة وكذلك من تونسيين من خارج المنطقة يعتبرون أنها مائدتهم”.
وأوضح: “هناك من يأتي بالماء المعدني وهناك من يأتي بالدقلة (نوعية جيدة من التمور) من الجنوب والتوابل والياغورت (الزبادي)”. و”فقط نبقى محتاجين للحم الذي هو باهض (باهظ) الثمن (45 دينارا للكيلوغرام الواحد/ نحو 15 دولار)، ولكما أتانا متبرع نوصله بقصاب (جزار) أو بائع دجاج ويشتري هو البضاعة”، بحسب المرابطي.
ضيوف دائمون
وحول ملاحظة تواجد مهم للأفارقة من جنوب الصحراء بين المستفيدين من المائدة، شبَّه المرابطي المائدة بأنها “عائلة موحدة للقارة الإفريقية فيها كل الفئات الاجتماعية فيها جزائريون ومغاربة وإخوة ليبيون وكذلك العديد الأفارقة من أحياء جامعية مجاورة”.
وتابع: “لنا العديد من الأفارقة جنوب الصحراء، وهم مواظبون منذ سنوات على المائدة وهم طلبة يقيمون في المبيتات الجامعية المجاورة (وهم من) كوت ديفوار وغانا وجنوب إفريقيا والسودان.. المائدة مضيافة لهم وهي مائدة الرحمن”.
ومعربا عن سعادته بوجودهم على المائدة، أردف المرابطي: “يأتي الجميع لينالوا أشهى الأطعمة التونسية في إطار من الفرحة ودون مَنِّ ولا أذى بقدر ما هي حاضنة للحب والعطاء”.
وبشأن احتمال تأثير الأحداث الأخيرة على توافد الأفارقة على المائدة، أجاب بأنه “بالنسبة للأفارقة لم يتغير أي شيء في التعامل معهم.. نفس الإيقاع ونفس التصور”.
وأردف: “نحن فرحون بهم نحضنهم، فهم ضيوف تونس وضيوف الرحمن، ونحاول نقدم لهم أشهى الأطعمة وكل يوم ننوع لهم ونمدهم بالأكلات التي يحبونها وخاصة الأرز”.
وفي فيفري الماضي، اعتبر الرئيس التونسي قيس سعيّد أن تدفق مهاجرين غير نظاميين على بلاده يمثل مؤامرة تستهدف تغيير تركيبتها الديموغرافية، وهو تصريح أثار انتقادات واتهامات داخلية وخارجية بالعنصرية وغادر بعض المهاجرين تونس، فيما نفى سعيّد صحة ذلك الاتهام.
وتابع المرابطي: “نستمد هذا الجهد التضامني من تقاليد الأحياء الشعبية التي تتضامن فيما بينها ويقيم أهلها الأفراح مع بعض حتى أنك لا تتعرف بسهولة على منزل العريس فكل المنازل مفتوحة لضيوف العريس وكذلك الأمر في الأتراح”.
“نشكر علي وأصدقاءه”
محمد الأمين كوياتي من كوت ديفوار، وهو طالب دكتوراه بجامعة الزيتونة، أعرب عن شكره لجهود على الهادفي وأصدقائه، واصفا المادئة بأنها “جميلة “
وأضاف كوياتي للأناضول: “علي وأصحابه يقدروننا بصراحة، وهناك كثير من الطلبة الأفارقة من جنوب الصحراء يأتون كل يوم إلى هنا إلا اليوم (خميس) لأن رئيس الجامعة الزيتونة دعاهم اليوم للإفطار”.
كوياتي تابع: “منذ سنوات وأنا أتي إلى هنا، وعلي وأصحابه يستقبلوننا ولنا تواصل معهم حتى خارج رمضان.. هذا عمل خيري بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم حث على هذا”.
وختم بأن “علي وأصحابه فهموا حديث الرسول: “مَثل المؤمنين في توادهم وتراحمه كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.. ولذلك كل من يأتى إلى هنا من الطلبة الوافدين يستقبله علي استقبالا يليق به”.