شاهدت لحد الآن كل مباريات “كان” الكاميرون بين مباشر و مسجل. ولو سألتموني من هو المنتخب الذي أعجبك إلى حد الآن فإنني سأجيب دون تردد: إنه منتخب إثيوبيا. نعم، اضحكوا كما شئتم واستهزؤوا مني كما شئتم، فقد استمتعت بالمنتخب الأثيوبي. أعرف أنه انهزم في المباراتين اللتين لعبهما ضد الرأس الأخضر وضد الكاميرون، بل إنه أكل ضد الثاني “طراقية” استقرت على رباعية. ورغم ذلك فقد أعجبني أحفاد النجاشي بالرجولة التي ميزتهم.
لقد لعبوا مباراتهم الأولى بكل تحد وأبرزوا مهارات ينتشي بها العقل والجسم، مهارات تذكّر بأن كرة القدم في أصلها فن وفرجة و متعة.
قلت بعد المباراة الأولى، ربما لم يكن حجم منافسهم الرأس الأخضر يمنع من اللعب في الأمام و المجازفة و توظيف المهارات، وانتظرت مباراتهم ضد الكاميرون معتقدا أنهم سينكمشون في مناطقهم الخلفية خوفا و ذعرا من هيجان أسود الكاميرون وهم يلعبون أمام عرينهم. لكن اعتقادي كان خاطئا، فقد أعاد أحفاد النجاشي الكرة بل انهم “شيّحوا ريق” لاعبي الكاميرون في محضر جماهيرهم، وهاجموا وهاجموا وأحرجوا حارس مرمى أجاكس أمستردام السابق في أكثر من مرة و افتتحوا النتيجة وأضاعوا فرصا حرمتهم من ثلاثية في الشوط الأول الذي انتهى بالتعادل بهدف لهدف.
منتخب الكاميرون رد في الشوط الثاني ردة فعل الأسد الجريح متكلا على صحة أبدان خارقة وقتل المباراة في وقت سريع لكن ذلك لم يمنع الأثيوبيين من مواصلة التحدي و المشاكسة ,كانوا يتدرجون بالكرة نحو مناطق الكاميرون تدرجا متميزا بالسرعة و الفنيات التي حيرت خصومهم وأشعرتهم بإحراج أو لنقل بإهانة لم يتوقعوها، كانوا يبحثون عن مزيد التسجيل بكل جرأة بل بوقاحة تثير الإعجاب !!!! واصلوا اللعب كما بدؤوا غير عابئين بخطر أن يسجل لهم هدف خامس و سادس و سابع.
كانوا يلعبون بفكرة هي في الأصل أصح أفكار خوض منافسات كرة القدم، فكرة تستند إلى أن لعبة كرة القدم هي هجوم من أجل تسجيل الأهداف ودفاع من أجل تفادي الأهداف. كانوا متخلصين من عقدة الانكماش إلى الوراء في صورة كان المنافس أقوى مؤمنين بأنه لا بد من المحاولة و المقارعة برجولة ولينتصر الأكثر توفيقا. أما أن نتراجع خوفا و ذعرا فهذا فكر لا مكان له في كتب النجاشي.
الأثيوبيون لعبوا دون حساب، ربما كان حسابهم الوحيد أن هناك جمهورا من حقه أن يتمتع، و نجحوا في إمتاعه رغم الهزيمة. هزيمة جعلت كل من تابع المباراة يتعاطف معهم و يلعن القدر الذي غدر بهم و لم يراع أنهم قاموا بالواجب و بأكثر منه.
الكاميرون سلطت غطرسة القوي صاحب الخبرة و الحرفية وفازت مستحقة النقاط الثلاث. أما إثيوبيا فقد اعتمدت الإبداع البشري الطبيعي الشيق البعيد كل البعد عن منطق الرياضيات والكرة المصنعة فخسرت النتيجة لكنها ربحت الإحترام والإعجاب الذي يبلغ حد العشق. عشق جسمته دموع حسناء إثيوبية كانت تبكي في المدارج آخر اللقاء وركزت عليها الكاميرا، لقد بدت دموعها حارقة لأنها كانت على يقين بأن بني بلدها لا يستحقون الهزيمة. لقد كانت تبكي من أجلهم و ليس منهم .. صورة جميلة تؤكد أن الجمهور يمكن أن يكون معك حين تؤدي ما عليك فلا يحالفك التوفيق.. فقط أدّ ما عليك فلن تجد إلا ما يرضيك.
أحفاد النجاشي فما ظلمتمونا حين أخذتم منا ساعتين من الزمن.. و كيف لكم أن تظلموا و أنتم من بلاد قال الرسول عن حاكمها النجاشي “إنه لا يظلم عنده أحد”.