غبت عنكم مدة، أحيانا تتكاثر الهموم و المآسي في بلادك فلا تستطيع مجابهتها إلا بالسكات، ثم تنتفض لاشعوريا لتطلق صيحة تدوي و تصم الآذان، لكنها تعيد إليك بعض النفس.
لن أتحدث اليوم عن الكرة.. اليوم سأروي لكم حكاية رجل أقسم بالله أنني لا أعرف وجهه، ولم أقابله يوما في حياتي، و لم يجمعني به لقاء لا مباشر ولا غير مباشر. هذا الرجل سمعت عنه، ولم أسمع عنه سوى الخير، ولم أسمع عنه سوى ما يؤكد أنه من أفضل وأرجل ما أنتجه القطاع الطبي في تونس. هو أستاذ في ميدانه، وهو رئيس قسم – أو الأصح كان منذ أيام رئيس قسم – في مستشفى الحبيب ثامر. إنه الأستاذ الدكتور ماهر شطورو.. كفاءة عالية وأخلاق أعلى و تواضع كبير ورحمة واسعة بكل من كان محتاجا أو فقيرا. في سنة 2017 أجرى عملية جراحية فريدة من نوعها و كللت بالنجاح التام وأصبحت حديث القاصي و الداني في عائلة الصحة. تمثلت هذه العملية في اقتطاع جزء من مصارين امرأة صنع به لها مثانة وقام بزرعها لها تعويضا عن مثانتها التي فقدت فاعليتها كليا. نجحت العملية و عادت المرأة إلى حياتها العادية بعد أن كانت مهددة بحمل حقيبة بلاستيكية خارجية تعوض المثانة. لقد أعاد إليها بهذا النجاح الطبي الأمل وفرحة الحياة .القسم الذي كان يرأسه الأستاذ شطورو هو الذي أسسه وبناه لبنة لبنة ورعاه ليصبح أفضل قسم في اختصاصه في مستشفياتنا.
كان يسيره بروح الأب و الأخ ، من خلال تعامل يفوق أسمى حدود الإنسانية مع المرضى ، و الإطار الذي يعمل معه بالقسم تعلم منه و كرس كل مبادئ التعامل الإنساني مع كل من قصدهم شاكيا ألما. و لأن الدكتور كان لا يعول على أكثر من “شهريته” التي لا تبل و لا تعل، كان لزاما عليه خارج أوقات عمله بالمستشفى أن يشتغل بعض الساعات مع المؤسسات الخاصة حتى يسد رمق حاجياته. ولأن أولاد “الحلال” كثيرون في بلادي، صنعوا له قضية من هذه الحكاية، وجاءه لفت نظر في الموضوع فأجاب بما يفيد و يؤكد أن العمل الإضافي الذي يقوم به هو خارج أوقات عمله. بعدها بأيام وصله قرار بعزله من منصبه كرئيس قسم، و تعويضه بشخص آخر. امتثل الأستاذ للقرار واتجه متظلما إلى الوزير، لكن سعادة الوزير رفض استقباله. ليبقى الرجل يتجرع مرارة الحسرة و الشعور بالظلم.
زملاؤه الذين حدثونا عنه قاموا بوقفة احتجاجية مساندة له. والبعض منهم استقبل خبر عزل الأستاذ بالبكاء الحار، أما هو فلم يجد له سوى أن يطلق تنهيدة من أعماق أعماقه. ألهذا الحد نستهين بعملاق من عمالقة الطب في البلاد ؟ ثم يتساءلون لماذا تهرب الأدمغة و الكفاءات إلى الخارج ؟ ماذا تريدون؟ أن تبقى الكفاءات في “التمرميد ” والإهانة ورهن بنان من يسوى و من لا يسوى ؟ إلى أين أنتم سائرون بنا ؟ لا أدري!! و حتى الأستاذ أراه لا يدري إلى أين سترسي به سيارة يقودها منذ أكثر من عشرين سنة تقضي معه يوما و مع الميكانيكي يوما ، هكذا أكد لي بعض من يشتغلون معه، فالأستاذ اختار أن يعيش بما يجود به جهده و عرقه، ومن يختار هذا الطريق في يقضي عمره “زوالي” في وطن الكذابين والمنافقين والمشجعين وهواة المظاهر الخادعة، وفي مستنقعات الفساد وقلة المعروف وفي أجواء الدسائس والسرقة و “الغورة “.
الأستاذ المسكين صدق مقولة : “حب الوطن من الإيمان ” ، فبقي في وطنه ليخدم أهل وطنه غير باحث عن ثراء رغم أن عروض الهجرة جاءته أكثر من مرة، و لقد حدثوني أنه طالما رفض الحصول على أجرته من كل مريض جاءه وهو قليل ذات اليد . و لو أنه غادر هذا الوطن بكل الكفاءة التي عنده و بكل الأخلاق التي تميزه لوجد له مكانا في أعلى علّيين في أكثر البلدان تطورا و التي اختصت في اختطاف مثل هذه الثروات ، بعدها يمكنه أن يعود إلى وطنه غازيا لا طالبا لمنة أو شاكيا من ظلم… مع تحياتي لجماعة الصحة ، وفقهم الله في اقتلاع ما تبقى من جذور خير في هذه البلاد التي يصر البعض على أن يقطع منها البركة..