رغم الانقسام وعدم التعافي من آثار فيضانات درنة، إلا أن مطالبة كل من مجلس النواب الليبي ومجلس الدولة الأعلى للدول الغربية الداعمة للحرب الإسرائيلية على غزة بمغادرة البلاد، والتلويح بوقف تصدير النفط إذا لم تتوقف الحرب، خطوة متقدمة لم تجرؤ عليها دول أخرى.
لكن هذا الموقف الجريء لكل من مجلسي النواب (الأربعاء) والدولة (الخميس) ولو بشكل منفصل، يطرح عدة تساؤلات حول قدرتهما على إلزام كل من حكومتي الوحدة في العاصمة طرابلس، وحكومة أسامة حماد في مدينة بنغازي (شرق) على تنفيذه.
أم أن الأمر مجرد مزايدة سياسية للمجلسين بهدف كسب مشروعية شعبية، في ظل تضامن واسع للشارع الليبي مع فلسطين تجلى في المظاهرات الداعمة لقطاع غزة، ورفضه لكل أشكال التطبيع مع إسرائيل.
طرد السفراء ممكن ولكن..
لا شك أن مجلسي النواب والدولة يملكان نفوذا لا يستهان به في ليبيا، يتجاوز بكثير نفوذ كثير من البرلمانات العربية، بالنظر للصلاحيات الممنوحة لكليهما مجتمعين في اختيار رئيس الحكومة وعزله.
لكن في ظل وجود حكومتين في البلاد، يكاد يتلاشى هذا النفوذ، فعندما يطلب مجلس النواب من سفراء كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا بمغادرة البلاد، في حين أن أغلب هؤلاء السفراء متواجدون في طرابلس حيث لا سلطة ولا نفوذ له فيها.
وحتى وإن تعزز هذا الطلب بموقف المجلس الأعلى للدولة، الذي له نفوذ في طرابلس والمنطقة الغربية إلا أنه لا يملك سلطة فعلية على حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تلزمها بتنفيذ قراره بطرد السفراء الذين تدعم بلدانهم “العدوان الإسرائيلي على غزة”.
ناهيك عن أن كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لم تعيد فتح سفاراتها في طرابلس إلى بين عامي 2021 و2022، بعد غلقها في 2014، باستثناء إيطاليا التي أعادت فتح سفارتها في 2017.
وبذلت حكومة الوحدة (2021 إلى اليوم) وقبلها حكومة الوفاق (2016-2021) جهودا مضنية لإقناع الدول الغربية وبقية دول العالم لإعادة فتح سفاراتها مجددا في طرابلس.
لذلك من الصعب توقع أن يُقدِم الدبيبة على طرد السفراء الغربيين بعد كل تلك الجهود التي بذلت لعودتهم، وإلا ستكون تضحية دبلوماسية كبيرة من أجل فلسطين، لها تداعياتها السلبية المؤكدة، لكنها سترفع شعبيته داخليا وعربيا.
غير أن خطوة من هذا القبيل مستبعدة، في ظل حاجة الدبيبة إلى الاعتراف الغربي بحكومته لاستمرارها، وإلا قد تنقلب عليه واشنطن وحلفاؤها الأوربيون، وتحول اعترافها إلى الحكومة المكلفة من البرلمان في بنغازي.
إلا أن اشتراك مجلسي النواب والدولة في موقف واحد لطرد السفراء الداعمين لإسرائيل، سينزع من أيدي الدول الغربية ورقة الاعتراف الدولي بحكومة الدبيبة، خاصة إذا كان هناك إجماع شعبي وسياسي حول هذه الخطوة.
ومثل هذه المواقف ليست غريبة عن الشعب الليبي، الذي سبق له وأن دعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي (1954-1962)، رغم أن أراضيه كانت حينها تنتشر بها قواعد فرنسية (الجنوب) وأمريكية (الغرب) وبريطانية (شرق)، مع ذلك كانت الحكومة الليبية في عهد الملك محمد إدريس السنوسي تشحن الأسلحة القادمة من مصر إلى داخل الأراضي الجزائرية عبر تونس، ثم عبر حدودها الجنوبية بمساعدة قبائل الطوارق في الصحراء الكبرى.
فخطوة من قبيل طرد السفراء الغربيين تحتاج إلى نضج سياسي وشعبي قبل أن يجرؤ رئيس حكومة الوحدة على تنفيذها.
كما أن الدبيبة يحتاج إلى موقف عربي وإسلامي مماثل وداعم ومتضامن لطرد سفراء الدول الداعمة لإسرائيل، حتى لا تظهر ليبيا وحيدة في مواجهة الغرب.
إيطاليا الضحية الأولى
الخطوة الثانية التي طالب بها مجلسا النواب والدولة تتمثل في إيقاف تصدير الغاز والنفط إلى الدول الداعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة إلى غاية توقف الحرب يمكن تنفيذها حتى وبدون قرار من حكومتي الدبيبة وحماد، لكن لها تداعياتها وتبعاتها أيضا.
فليبيا تنتج نحو 1.2 مليون برميل يوميا وتطمح للوصول إلى 1.3 مليون برميل يوميا على المدى القريب، وتمثل الصادرات النفطية لوحدها 94 بالمئة من إجمالي الصادرات خلال الربع الأول من عام 2023، وفق بيانات المصرف المركزي الليبي.
جميع صادرات الغاز تتجه إلى إيطاليا عبر أنبوب “السيل الأخضر” في منطقة مليتة بالمنطقة الغربية التابعة لسيطرة حكومة الوحدة، أما صادرات النفط فتتم عبر الموانئ النفطية في الوسط والشرق والتي تخضع لسيطرة قوات الشرق بقيادة خليفة حفتر.
وأغلب الصادرات النفطية تتجه للأسواق الأوروبية بنسبة 74 بالمئة؛ تستحوذ إيطاليا على 23 بالمئة.
وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ليست من عملاء ليبيا الستة الرئيسيين وهم: إيطاليا، ألمانيا، إسبانيا، الصين، اليونان، هولندا، خلال الربع الأول من العام الجاري.
ورغم ذلك فإن الصادرات الليبية إلى الولايات المتحدة بلغت في عام 2022 نحو 2.2 مليار دولار، وفق بيانات المكتب التنفيذي للرئيس الأمريكي.
وسبق أن أغلقت قبائل داعمة لحفتر الموانئ والحقول النفطية بسبب الصراع الداخلي على تقاسم العائدات التي تصب في حسابات مؤسسة النفط بالمصرف المركزي التابع لحكومة الوحدة.
هذا السيناريو يمكن أن يتكرر مع الدول الداعمة “للعدوان على غزة”، إذا ما وجدت حكومتا الدبيبة وحماد، حرجا في إيقاف تصدير النفط لها، لكنهما يحتاجان موقفا مساندا من حفتر، من خلال الإيعاز لنفس القبائل المنتشرة في الهلال النفطي أو في مناطق انتشار الحقول والموانئ النفطية لغلقها.
لكن هذا السيناريو سيضر ببقية الدول غير الداعمة لإسرائيل أيضا، كما أن الولايات المتحدة وبريطانيا وبدرجة أقل فرنسا لن تتضرر من وقف صادرات النفط والغاز الليبيين.
إلا أن الضرر سيتركز على إيطاليا، خاصة بعد تقليصها لوارداتها من الغاز الروسي، رغم أن صادرات الغاز الليبي محدودة ولا تتجاوز 4 مليارات متر مكعب سنويا.
والتأثير الرئيسي أن قرارا ليبيًا في هذا الصدد من شأنه تحريك أسعار النفط إلى الأعلى، وقد يدفع دول عربية وإسلامية أخرى مثل الجزائر وربما السعودية وقطر والكويت لاتخاذ مواقف مماثلة إذا تصاعدت المجازر في غزة.
فمطلب مجلسي النواب والدولة الليبيين بطرد السفراء وإيقاف تصدير النفط والغاز للدول الداعمة للعدوان على غزة “صعب التنفيذ”، وله تداعيات سياسية واقتصادية على البلاد، ولكنه “ليس مستحيلا” في الحالة الليبية، والتاريخ يشهد على ذلك سواء في حرب التحرير الجزائرية أو حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل.
فالليبيون في أصعب ظروفهم كانت لهم مواقف “تاريخية”، بشأن دعم حركات التحرر العربية، لكن موقفهم الرائد هذه المرة يحتاج مؤازرة عربية وإسلامية، وبالأخص الدول المصدرة للنفط والغاز مثل الجزائر ودول الخليج، ليكون لها الأثر الكافي مثلما كان الأمر في حرب 1973.