بعد صيف باذخ أنفقت فيه السعودية قرابة المليار دولار لاستقطاب لاعبين جدد، تراجعت قيمة تعاقدات أندية المملكة الخليجية هذا الصيف بأكثر من النصف، في خطوة ربطها خبراء بالتقشف وإعادة تقييم المشاريع الاقتصادية العملاقة التي تنكب عليها الرياض.
وتراجعت السعودية التي حلّت في المركز الثاني العام الماضي، إلى المركز السادس خلف “الخمسة الكبار” الأوروبيين، بإنفاق بلغ 431 مليار دولار، أي نصف ما أنفقته في صيف 2023 حين صرفت 957 مليون دولار قياسية على انتقالات لاعبين جدد، وفقا لتقرير نشره الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) مطلع سبتمبر الماضي.
ومقابل التوقيع مع الفرنسي كريم بنزيمة والبرازيليين نيمار وفيرمينو والسنغالي ساديو ماني من صفوة الأندية الأوروبية في 2023 نظير رواتب هائلة، لم تسجل الأندية السعودية التوقيع مع نجم كبير بارز في صيف 2024.
وأرجع سيمون تشادويك أستاذ الرياضة والاقتصاد الجيوسياسي في كلية سكيما للأعمال في باريس تراجع الإنفاق السعودي إلى مروحة أسباب مالية ورياضية.
وأفاد وكالة فرانس برس “أولا، رياح التقشف تهب على كرة القدم، وهي انعكاس لقضايا اقتصادية وسياسية أوسع نطاقا في جميع أنحاء العالم”.
وأضاف “ثانيا، تراجعت السعودية هذا العام عن العديد من التزاماتها بالإنفاق الكبير لتقييم ما إذا كانت تمثل قيمة مقابل المال، بالإضافة إلى أن صندوق الاستثمارات العامة باع سندات في الأسواق المالية”.
وقد يكون تراجع الإنفاق الكروي السعودي مرتبط بـ”ترتيب الأولويات” في برنامج رؤية 2030 الذي تتبناه المملكة.
ولفت وزير المالية محمد الجدعان في أفريل إلى أن “الصدمات” العالمية منذ إطلاق رؤية 2030 في عام 2016 على غرار الحروب في أوكرانيا وغزة، وجائحة كوفيد-19، والتضخم، وتعطل سلاسل التوريد، دفعت المسؤولين إلى مراجعة خططهم الإصلاحية.
وأكّد أّن المسؤولين السعوديين “ليس لديهم غرور” ويمكنهم “تغيير المسار” و”التكيُّف” استجابة للظروف الاقتصادية.
وقال مسؤولون سعوديون منذ العام الماضي إنه سيتم تمديد الإطار الزمني لبعض مشروعات رؤية 2030، رغم أنهم لم يذكروا تفاصيل وقالوا أيضا إنه سيتم تسريع مشروعات أخرى.
وطرحت شركة أرامكو النفطية العملاقة، المملوكة بشكل كبير للدولة، أكثر من مليار من أسهمها في عملية جمعت أكثر من 12,3 مليار دولار، في مسعى لتوفير تمويل لمشروعات الإصلاح الكبرى بحسب خبراء.
– واقعي وعقلاني –
وأوضح جيمس دورسي الباحث في معهد سنغافورة لدراسات الشرق الأوسط أن تراجع الانفاق السعودي مرتبط بأسباب “اقتصادية” مع “وجود “تقليص في مشاريع كبرى أخرى”.
وأفاد فرانس برس أنّ الصفقات الباهظة في 2023 وضعت الدوري السعودي على “الخارطة” عبر “جذب الانتباه” لدوري غير معروف “عالميا” من قبل.
لكنّه أضاف “في نهاية المطاف، يتعين عليك بناء هذا بشكل مستدام. ولن تتمكن من القيام بذلك ببساطة من خلال شراء (لاعبين) بأسعار مبالغ فيها، بل سيتعلق الأمر بالأداء، وأعتقد أن السعوديين يدركون هذا على الأرجح”.
وأوضح أن السعوديين “بدأوا يشعرون بضغوط الميزانية بوجود إنفاق ضخم كجزء من رؤية 2030”.
والسعودية الطامحة في أن تصبح قوّة رياضية عالمية، تستضيف منذ 2020 رالي دكار، جولة من سباقات فورمولا واحد منذ 2021، أطلقت دوري “ليف غولف” واحتضنت نزالات نخبوية في الملاكمة، فضلا عن استقطاب نجوم كرة قدم عالميين يتقدمهم البرتغالي كريستيانو رونالدو.
وستستضيف كأس آسيا 2027 ودورة الالعاب الآسيوية 2034 ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029، فيما تعد المرشحة الوحيدة لاستضافة كأس العالم 2034.
واعتبر محمد مندور الصحافي الرياضي في موقع “سبورتس داتا” الفرنسيّ أنّ تراجع الإنفاق يعكس “واقعية وعقلانية” لدى القائمين على البطولة السعودية.
وأفاد فرانس برس أنّ “أي مشروع (رياضي) في بداياته ينفق الكثير في مرحلة التأسيس ثم تبدأ مواسم أقل إنفاقا قبل أن تأتي مواسم الحصاد” المرتبطة بـ”إيجاد رعاة وموارد للأندية (السعودية) بعضها من خارج السعودية نفسها”.
وقال مسؤول في رابطة الدوري السعودي للمحترفين غير مخول بالحديث مع الإعلام “من قال أننا مطالبون بالتعاقد مع لاعب كبير كل صيف؟”.
وفسر لوكالة فرانس برس “الإنفاق هذا العام يعكس نضوج الدوري والسعي وراء سدّ الثغرات الفنية” في الفرق السعودية.
– تقييم الأولويات –
استقطبت الأندية الأربعة الكبرى في الدوري السعودي، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة واسع الثراء، 15 لاعبا أجنبيا في فترة الانتقالات الصيفية، بينهم سبعة للاتحاد الباحث عن استعادة اللقب من الهلال.
في المقابل، احتفظ الهلال بترسانته الأجنبية التي ساعدته على اكتساح الموسم الماضي محليا.
وظفر فريق العاصمة بتوقيع الظهير البرتغالي جواو كانسيلو (30 عاما) من مانشستر سيتي بطل إنكلترا، لتعويض رحيل مدافعه سعود عبد الحميد إلى روما الإيطالي.
ولا ينفصل تراجع الإنفاق الكروي في السعودية عن الواقع العالمي.
إذ تراجعت رسوم الانتقالات في كرة القدم للرجال بنسبة 13% مقارنة بالعام الماضي، لتصل إلى 6.4 مليار دولار (5.8 مليار يورو)، بحسب تقرير فيفا.
وأوضح تشادويك أنّ “الإنفاق على لاعبين باهظي الثمن وأسماء كبيرة هو في نهاية المطاف مسعى مرهق ماليا على المدى الطويل ولا يضمن النجاح. العائدات التجارية المتوقعة (صفقات البث التلفزيوني) لم تتحقق حتى الآن”.
وأضاف أن الواقع الحالي “يستلزم إعادة تقييم الأولويات والأهداف”.
وذكرت تقارير أنّ الأندية السعودية قد تعود للإنفاق بقوة العام المقبل مع إمكانية جلب لاعبين كبار في صفقات انتقال حرة كالمصري محمد صلاح والبلجيكي كيفن دي بروين.
لكنّ الخبير تشادويك يعتقد أنّ “السعودية تسعى إلى تحقيق توازن مختلف بين جلب لاعبين دوليين معترف بهم عالميا والمطلوبين لجذب الجماهير، وتطوير المواهب السعودية التي ستدفع نجاح المنتخب الوطني وتساعد في بناء نظام سليم في البلاد”.