” ثماني سنوات على استشهاد إبني ومازالت في قلبي لوعة ووجعي لا ينتهي .. كلمة شهيد أوجاعها كبيرة ولكن فخرها أكبر”، هكذا تكلمت أم محمد ياسين السلطاني شهيد طلائع مكافحة الإرهاب في “ملحمة” بن قردان (2016)، التي قضت فيها القوات المسلحة على حلم تنظيم “داعش” الإرهابي في إقامة “إمارة” على أرض تونس.
رغم حرقة الفراق إلا أن أم الشهيد محمد ياسين تحدثت، في تصريحات لـ(وات) بمناسبة تكريم مؤسسة “فداء” لعائلات شهداء “ملحمة” بن قردان نهاية الأسبوع الماضي، عن بطولاته وزملائه في هذه المعركة المشهودة بكل فخر واعتزاز.
بدوره، لا يزال والد الطفلة الشهيدة سارة بوقديمة يكرر بعد ثماني سنوات قوله “بلادنا زيتونة سنسقيها بدمائنا .. وبلادي قبل أولادي”.
الطفلة سارة البالغة آنذاك 12 عاما كانت من بين ضحايا العملية الإرهابية الغاشمة ببن قردان.
يضيف والد سارة، لـ(وات)، ” أهالي المنطقة فداء للوطن ولن يتوانوا ولو للحظة في الدفاع عنه”.
فجر يوم 7 مارس 2016 هاجمت مجموعة تابعة لما يعرف بـ”كتيبة البتار” الداعشية مدينة بن قردان (جنوب شرق) بشكل مباغت وحاولت الاستيلاء على المؤسسات الرسمية للدولة في المنطقة، غير أن قوات الجيش والأمن والأهالي سرعان ما تجاوزوا حالة الصدمة ليردوا الفعل بروح من التكاتف والتلاحم والحس الوطني العالي.
الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، أي بعد سويعات قليلة من بداية الهجوم، كانت “لحظة قنص القائد الميداني للمجموعة الإرهابي “مفتاح مانيتا” ومقتله على يد عنصر أمني، فكانت لحظة فارقة في المعركة، أربكت المهاجمين وشتتتهم وجعتلهم يتحصنون بالفرار”، وفق ما ذكره الكاتب والباحث في تاريخ تونس المعاصر محمد ذويب، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات).
الإرهابي “مفتاح مانيتا” كان انتقل من سجن “غوانتانامو” إلى أحد السجون في تونس، قبل أن ينال العفو التشريعي سنة 2011، ليعود للتسلل إلى تونس لقيادة المجموعة (تعد بين 100 و120 عنصرا) التي هاجمت بن قردان.
لماذا بن قردان ؟
يقول أستاذ العلوم الجيواستراتيجية بالجامعة التونسية رافع الطبيب، لـ(وات)، إن مدينة بن قردان ” وجدت في أدبيات ما يعرف بـ “الإسلام المقاتل” وفي جزء من تراثه الأدبي، إذ سبق لأبي مصعب الزرقاوي، “الأب الروحي” لتنظيم “داعش” الإرهابي، أن قال إنه كان يجب فتحها لو كانت موجودة على حدود العراق”.
بن قردان هي معتمدية حدودية مع ليبيا (جنوب شرق) ويبلغ طول هذه الحدود 135 كلم، وساهم موقعها الاستراتيجي في ازدهار التجارة بها وخاصة عبر معبر رأس الجدير الرئيسي.
ويرتكز النشاط التجاري فيها على تبادل السلع بين تونس وليبيا عبر هذا المعبر الحدودي البري، ويعتمد جزء من أهالي هذه المنطقة على التجارة الموازية مثل المحروقات والملابس والسجائر وغيرها من السلع، بالإضافة إلى تجارة صرف العملة.
وبن قردان هي من أكبر معتمديات ولاية مدنين مساحة (4732 كيلومترا مربعا)، وأكثرها سكانا (قرابة 80 ألف نسمة)، وتتجلى أهميتها في تنوع حدودها الممتدة برا على حدود ليبيا (جنوب)، وبحرا عبر سواحلها المطلة على البحر الأبيض المتوسط (شرق).
يقول الأستاذ رافع الطبيب بشأنها إنها مدينة استراتيجية “ما جعل اقتحامها والسيطرة عليها حلما لتنظيم داعش الإرهابي، الذي منّى نفسه بنشر أخبار وصور الاستيلاء على المدينة مساء السابع من مارس 2016.”
وأضاف قوله “إن تحالف فروع من بارونات التهريب مع الإرهاب، أسال لعاب الإرهابيين المهاجمين لبن قردان، وظنوا أن الطريق ستكون مفتوحة لهم بمجرد اقتحامهم للمدينة “.
وساهم انهيار الدولة في ليبيا وضعفها في تونس بعد 2011 في تغير بعض المعادلات بالمنطقة، مع ظهور رؤوس تهريب جديدة، كانت لا تتوانى في التحالف مع أي كان، حتى مع المجموعات الإرهابية، وفي العمل في مجال تهريب الأشخاص، وفق المتحدث.
وذكّر الأستاذ رافع الطبيب، بخصوص تغير المعادلات، بأن السلطات المعنية كانت عقدت “اتفاقات ضمنية”، منذ سنة 1989 واستمرت إلى 2011) مع عدد من فروع عروش “التوازين” القاطنين ببن قردان، تغض بمقتضاها الطرف عن أعمال التجارة بالمنطقة على ألا تطال الممنوعات والمخدرات والسلاح أو تهريب الأشخاص.
وتطرقت أطروحة رافع الطبيب لنيل الدكتوراه في العلوم الجيواستراتيجية، الموسومة بـ”آثار الحدود التونسية الليبية على إعادة الهيكلة الاقتصادية والاجتماعية للورغمة من الحيازة إلى إعادة الاستيلاء على الأراضي”، إلى هذه الاتفاقات وطبيعة العلاقات الأنثروبولوجية والاقتصادية في المنطقة.
الفشل الذريع
“خلافا لتوقعات التنظيم الإرهابي، قام أهالي بن قردان بدعم وإسناد القوات الأمنية والعسكرية في صد الهجمة الإرهابية وملاحقة الإرهابيين ومحاصرتهم”، يسرد محمد ذويب صاحب كتاب “ملحمة بن قردان”، لـ (وات)، وقائع العملية.
ونجحت القوات العسكرية والأمنية في صد الهجوم الإرهابي المباغت وهزم المجموعة المنتمية لما يعرف بـ”كتيبة البتار”، بعد سقوط أغلب عناصرها بين قتيل وجريح واعتقال بقيتهم.
ويعود هذا النصر، وفق الأستاذ رافع الطبيب، بالأساس إلى ” استعداد السلطات التونسية لمواجهة الإرهاب، وإلى العقيدة العسكرية الوطنية للقوات المسلحة، الأمر الذي حال دون وقوع اختراقات وانتشار الفساد صلبها، كما الشأن لبعض الجيوش بالمنطقة عموما .. فالموصل العراقية، مثلا، وقع تسليمها لداعش في البداية دون مقاومة تذكر”، وفق قوله.
وتعد عملية بن قردان، وفق المتحدث ذاته، ” أول فشل داعشي ذريع لعمليات الاقتحام المنظم، وحرب العصابات والمدن التي أتقنت ميليشياتها فنونها، فمثلت هذه الملحمة صدمة بالنسبة لهم، ونقطة بداية تراجع التنظيم الإرهابي بشمال إفريقيا، بل وبالمنطقة بأسرها”.
وتأسست “كتيبة البتار” الدموية، وفق الباحث محمد ذويب، سنة 2012 في اللاذقية بسوريا، وكان لها باع في تنظيم “داعش”، إذ تورطت عناصرها الليبية والتونسية المؤسسة في الهجمات على الرقة (سوريا) والموصل (العراق) قبل أن يعود عدد من قيادييها للالتحاق بمعسكرات درنة وسبراطة وغيرها بليبيا في سنة 2014.
وجاءت محاولتها السيطرة على بن قردان بمثابة رد فعل على نجاح تونس في الأشهر التي سبقت العملية في محاصرة الإرهابيين في الجبال الغربية للبلاد وإثر غارات استهدفت تموقعها بليبيا في فيفري 2016، ونجحت في القضاء على الإرهابي نور الدين شوشان أحد أمرائها، وفق محمد ذويب.
الدرس !
يقول أستاذ العلوم الجيواستراتيجية رافع الطبيب إن معركة بن قردان كانت “درسا” لكل من أراد القضاء على “داعش”، إذ كانت ” حافزا للجيش الليبي لدحر بؤر الإرهاب، كما كانت محفزا ودرسا للعراقيين وقوات الحشد العراقية التي تمكنت من تحرير الموصل من داعش بعد عام، ونفس الشأن بالنسبة لمعركة سوريا”.
يتابع الطبيب قائلا ” أحد شيوخ الحشد الشعبي في العراق، قال بصريح العبارة بعد عام من ملحمة بن قردان .. لن يكون مصير الموصل مخالفا لما حصل ببن قردان، متوعدا داعش”.
ووصف الأستاذ رافع الطبيب التفاف وإسناد أهالي المدينة لقوات الجيش والأمن الوطنيين بـ”الدرس العظيم”، وقال إنها “ملحمة جسدت كما ينبغي حرب المدن وقدمت أفكارا جديدة لردع الإرهاب ودحر الإرهابيين”.
وقدم محمد ذويب أمثلة، كان وثقها في كتابه “ملحمة بن قردان”، عن عزيمة أهالي المنطقة وحرصهم على دعم قوات الأمن والجيش في دحر الإرهابيين.
وذكر في هذا الشأن أن أحد المواطنين عبر عن استعداده لوضع جميع عرباته بسائقيها على ذمة جهود صد الهجمة الإرهابية على المنطقة.
وجع يغلبه الأمل
خلفت معركة بن قردان، التي امتدت إلى غاية 19 مارس 2016، وفق المعطيات الرسمية، 13 شهيدا من قوات الأمن والجيش الوطنيين وسبعة شهداء مدنيين.
كما أسفرت المعركة عن مقتل 55 إرهابيا واعتقال عشرات آخرين وتقديمهم للمحاكمة.
ويمثل 96 متهما في هذه القضية أمام القضاء التونسي، الذي أصدر يوم 6 مارس 2022 أحكاما ابتدائية بالإعدام ضد 16 متهما، وبالسجن مدى الحياة في حق 15 آخرين، وبالسجن بين 20 و30 عاما ضد 14 متهما، وبأحكام تتراوح بين 4 و15 سنة سجنا ضد آخرين.
ونظمت مؤسسة “فداء”، التي تُعنى بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها، نهاية الأسبوع الماضي، تظاهرة بمناسبة الذكرى الثامنة لـ”ملحمة” بن قردان.
وقال رئيس المؤسسة، أحمد جعفر إن إحياء هذه الذكرى فيه ” رسالة معنوية بالأساس تتوارثها الأجيال المتعاقبة وفكرة شاملة عن هذه الملحمة لإدراك حقيقة ما حدث خلال تلك الفترة وأهمية تضحيات الشهداء من القوات الحاملة للسلاح التي فدت بدمائها وأرواحها استقلال تونس ومناعتها”.
وأضاف قوله “ماذا كان سيحدث وماذا كان سيكون مصير تونس في حال لم تصد القوات العسكرية والأمنية الباسلة هجوم الدواعش على بنقردان؟ “.
يقول شقيق الشهيد بولعراس الرداوي، الضابط بالحرس الوطني، أحد شهداء معركة بن قردان، في تصريح لــ(وات) بهذه المناسبة، “يكفي عائلة بولعراس فخرا وشرفا أنها قدمت شهيدا للوطن .. ومستعدون لتقديم مزيد من الشهداء إعلاء للراية التونسية”.
أما هبة ابنة الشهيد عبد السلام السعفي، أحد أبناء بن قردان وأبطالها الذين تصدوا لقوى الظلامية والرجعية، فذكرت أنها تواصل دراستها بتفوق وتحصلت خلال الثلاثي الأول من العام الدراسي الحالي على معدل فاق 18 من 20.
وبابتسامة أمل ونظرة تفاؤل بالمستقبل، تسلمت هبة جائزة تكريم والدها الشهيد، في التظاهرة التي نظمتها مؤسسة “فداء”.