لم تهدأ أزمة شح السلع الأساسية في السوق التونسية خلال العام الجاري، بصدارة القمح والطحين (الفارينة)، في وقت تتهم الدولة جهات باحتكار هذه السلع.
إلا أن خبيرين تونسيين، أجمعا على أن الصعوبات المالية التي تمر بها الدولة، هي أبرز سبب وراء استمرار ندرة المواد الغذائية في الأسواق المحلية.
الخبير الاقتصادي معز بن حديدان والأستاذ الجامعي في الاقتصاد رضا الشكندالي، قالا في تصريحات للأناضول إن الاحتكار ليس سوى نتيجة للندرة.
الفساد موجود
وقال ابن حديدان بخصوص حديث السلطات التونسية عن الاحتكار والمحتكرين الذين يقفون وراء ندرة المواد الأساسية وخاصة الخبز: “الاحتكار هو مستوى ثان لأن من يحتكر شراء الحبوب من الخارج أو من الفلاح في تونس هي الدولة”.
وأضاف أن بلاده توزع الحبوب عن طريق ديوان الحبوب (حكومي) على المطاحن، والأخيرة بدورها، حسب الكمية المصنعة، تأخذ دعما من الدولة، وتعيد توزيع الطحين على المخابز بسعر مدعم، والدولة تعطي دعما للمخابز حسب ما تحصلت عليه من كميات.
“عندما يكون هناك دعم تدخل المحاباة في من يأخذ أكثر كميات”، وفق المتحدث.
وأقر ابن حديدان أن “هناك فسادا في مستوى أول عند توزيع الحبوب من قبل ديوان الحبوب لذلك أقيل مديره بشير الكثيري، في 14 أوت الجاري”.
وتابع: “وهناك فساد في مستوى ثان عند التوزيع على المخابز، والشخص الذي تم إيقافه، له 20 مخبزة ومتهم بالمضاربة والاحتكار، (في إشارة إلى محمد بوعنان رئيس المجمع الوطني للمخابز التابع للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، أكبر منظمة أعراف في تونس تأسست في 1947 الذي تم إيقافه مؤخرا).
صعوبات مالية
ووفق ابن حديدان: “الفساد والاحتكار في الحبوب موجود منذ سنوات عديدة، ولم يكن يظهر على العلن، لأن الكميات كانت كافية لتغطي السوق.. الفساد ظهر اليوم بسبب شح الإمدادات”.
وزاد: “كميات الطحين أصبحت غير كافية عن سد حاجة السوق المحلية.. لأن الدولة لها صعوبات مالية في توفير الحبوب بكميات أكبر”.
الأستاذ الجامعي في الاقتصاد رضا الشكندالي، يذهب بالاتجاه ذاته في تحميل أزمة ندرة المواد الغذائية وظهور الاحتكار للأزمة المالية بالقول: “الوضعيات الاحتكارية والمضاربة تُخلق من وضعيات ندرة”.
وأضاف الشكندالي للأناضول: “تكون السلع غير متوفرة لأن الدولة التونسية ليس لها موارد من العملة الصعبة لتوفير الكميات اللازمة للسوق الداخلية”.
ووفق الشكندالي، فإن شعار “خبز واحد لكل التونسيين (رفعه الرئيس قيس سعيد لمواجهة أزمة الخبز لمواجهة المحتكرين والمضاربين)، جيّد، لكنه يخفي صعوبات مالية على مستوى توفير القمح بالكميات اللازمة”.
الدعم.. مشكلة أيضا
بالنسبة للخبير الاقتصادي معز بن حديدان، فإن “الفساد ظهر الآن لأن الدولة لها صعوبات مالية، لكن السبب الرئيسي هو هيكلي وهو منوال الدعم.. الدولة في ضوء عدم وجود تمويلات كافية من الخارج، لم تتمكن من التوريد”.
“الدولة تحتكر شراء الحبوب من الخارج، وتضبط سعر شراء الحبوب من الفلاح، ولأن ثمن الحبوب لا يغطي كلفة الإنتاج، فإن عديد الفلاحين عزفوا عن زراعة الحبوب”.
وتابع: “في 2002 كان لدينا 1.5 مليون هكتار تزرع حبوبا الآن لنا فقط مليون هكتار، فثلث المساحات اضمحل وفي 2002 كان لكل 10 آلاف مواطن 1500 هكتار حبوب.. الآن لنا 850 هكتارا فقط لكل 10 آلاف ساكن”.
تمرير رفع الدعم
وبخصوص اتهام الدولة بأنها تركت الأزمة تتصاعد لرفع الدعم دون كلفة اجتماعية، يقول بن حديدان: “رفع الدعم لا يكون إلا بزيادة سعر الخبز.. ربما نفس الأسلوب في التعامل مع مادة القهوة، التي سحبت ثم أعيدت بعد زيادة سعرها 30 بالمئة”.
وأضاف: “ربما الدولة تستغل هذه الفرص للزيادة في ثمن الخبز”.
محاذير رفع الدعم
الشكندالي يرى أن “رفع الدعم يعطي رغيفا بـ 250 مليما (0.083 دولار) ولكن هذا بالنسبة لهذه السنة، وإذا ارتفعت الأسعار العالمية للحبوب لا يبقى نفس السعر”.
“إذا رفعت الدولة في السعر، فأنت ذهبت في تحرير الأسعار لكن غدا لا يمكنك التحكم في سعر الخبز لدى المخابز، هذه الطريقة ستؤدي إلى زيادة التضخم المالي، التي قد تؤدي إلى الاحتقان”.
إلا أن الأمر يختلف عند الخبير الاقتصادي معز بن حديدان.. “الدولة لا بد أن تتخلى عن الدعم، هناك ثمن اجتماعي للخروج من الأزمة، وتونس في أزمة مالية خانقة وليس هناك خروج من أزمة لأي دولة في العالم دون دفع ثمن”.
“اليوم نحن ننتج أقل بكثير مما نستهلك، ونريد أن تنخفض الأسعار.. هذه عملية مستحيلة إذا لم تكن الدولة دولة نفطية أو دولة غنية، يجب القيام برفع الدعم تدريجيا”.
صعوبة الخروج من الأزمة
وحول أية إمكانات للخروج من وضع الندرة، قال الشكندالي: “في ظل الوضعية المالية للدولة، صعب الخروج من الأزمة، فحكومة بودن أخذت الموافقة التقنية من صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، ولم تحوله إلى اتفاق نهائي الأمر الذي جر إلى شح الموارد من العملة الصعبة.. نأمل أن ينجح أحمد الحشاني (رئيس الحكومة الحالي)”.
وأضاف: “لا بد من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ووضع برنامج إنقاذ مالي يتكون من 4 محاور، الفوسفات، والشركات المصدرة كليا، وتحويلات التونسيين بالخارج، والأموال المتداولة في السوق السوداء من العملة الصعبة”.
وتشهد تونس أزمة اقتصادية حادة فاقمتها تداعيات تفشي جائحة كورونا وارتفاع تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية إثر الأزمة الروسية الأوكرانية المستمرة.
وتعاني البلاد منذ مدة أزمة خبز، حيث يضطر المواطنون إلى الوقوف ساعات عدة في طوابير للحصول على حاجاتهم، وفق إعلام محلي ومنشورات على منصات التواصل الاجتماعي.
ومنذ 2021، تراجع إنتاج الحبوب في تونس لأسباب مناخية، انتقلت تداعياته بعد ذلك إلى السوق المحلية، من حيث عدم توفر كميات كافية من القمح المستخدم في إنتاج الخبز.