الاتفاق الذي وقعته مؤسسة النفط الليبية مع شركة إيني الإيطالية باستثمار 8 مليارات دولار لتطور حقلين بحريين للغاز ليس من شأنه رفع قدرات ليبيا التصديرية فحسب، بل سيحقق لحكومة الوحدة عدة أهداف سياسية، رغم الانتقادات التي وجهت لمضمون الاتفاق.
فهذا الاتفاق، الذي تم توقيعه في 28 جانفي، يهدف إلى رفع الإنتاج في الحقلين الغازيين إلى 750 مليون قدم مكعبة يوميا، بداية من 2026، وتخصيص ثلث الإنتاج لتصديره إلى إيطاليا، وفق شركة إيني ومؤسسة النفط.
وتكمن أهمية الاتفاق في أنه الأول من نوعه منذ عشرين عاما، رغم أن الحقلين لم يتم اكتشافهما حديثا، بل تم الاتفاق على تطويرهما في 2008، إلا أنه تم تحديث الاتفاق بزيادة حصة إيني في المشروع من 30 إلى نحو 37 بالمئة، وهو الأمر الذي اعترض عليه وزير النفط محمد عون.
ولكن ما يجعل هذا الاتفاق “تاريخيا”، أن الحكومات الليبية المتتالية لم تتمكن طوال السنوات العشرين الأخيرة حتى في زمن معمر القذافي (1969 ـ 2011) لم تنجح في استقطاب أي استثمارات كبيرة لشركات الطاقة العالمية منذ إنجاز مجمع مليتة بالشراكة مع إيني، التي تستحوذ على 80 بالمئة من إنتاج الغاز الليبي.
إنقاذ قطاع الغاز من الانهيار
فليبيا تعاني من تقادم حقولها الغازية، ونقص الاستثمارات لتطويرها، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تسبب في تذبذب الإنتاج وتراجعه.
يضاف إلى ذلك زيادة الطلب الداخلي على الغاز، ما تسبب في انقطاعات للتيار الكهربائي، إلى الدرجة التي قال فيها وزير النفط محمد عون، إنه لا يوجد في بلاده غاز للتصدير.
وأصبحت ليبيا تجد صعوبات في الإيفاء بالتزاماتها التعاقدية بشأن تصدير الغاز إلى إيطاليا.
واستمرار الوضع على هذا الحال لسنوات أخرى كان سيحول البلاد إلى دولة مستوردة للغاز بدل تصديره، بالرغم من أنها تنام على بحر من الاحتياطيات الغازية تقدر نحو 80 تريليون قدم مكعبة.
لذلك فإن الاتفاق الجديد مع إيني، من شأنه تحديث قطاع الغاز في ليبيا وزيادة الإنتاج وتغطية الطلب الداخلي ورفع حجم الصادرات، بل إن رئيس مؤسسة النفط فرحات بن قدارة، تحدث عن مداخيل سنوية تصل إلى 8 مليارات دولار.
وتقدر الاستثمارات في الحقلين البحريين ما بين 7 و9 مليارات دولار، ويمكن أن يحقق صافي إيرادات للدولة يصل إلى 13 مليار دولار، وفق بن قدارة.
ويمكن أن يصل الإنتاج في الحقلين إلى نحو 850 مليون قدم مكعبة في اليوم، خاصة وأن احتياطياته المؤكدة تبلغ 6 تريليونات قدم مكعبة، أي خمس حقل الظهر المصري.
والنقطة التي لا تقل أهمية عن كل ما سبق، أن استثمار العملاق الإيطالي في مشروع بثمانية مليارات دولار يشجع شركات عالمية أخرى في قطاع الطاقة للعودة إلى السوق الليبية والمشاركة في تطوير مشاريع للنفط والغاز، ويعطي صورة أكثر استقرارا ومطمئنة لقطاع المال والأعمال لضخ استثمارات حتى خارج قطاع المحروقات في بلد يستورد كل شيء باستثناء النفط والغاز.
حليف أوروبي لحكومة الدبيبة
رغم أن الاتفاق تعرض لانتقادات شديدة من فتحي باشاغا رئيس الحكومة المعينة من مجلس النواب في الشرق، وحتى من وزير النفط في حكومة الوحدة نفسها، بعد زيادته حصة الشريك الأجنبي إلا أنه حقق للدبيبة عدة أهداف سياسية.
فالدبيبة، ومن خلال هذا الاتفاق كسب حليفا دوليا له ثقله في صراعه على الشرعية مع حكومة باشاغا.
فزيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى العاصمة طرابلس، وتوقيع حكومتها عدة اتفاقيات مع حكومة الدبيبة، يبعثان أكثر من رسالة إلى الخارج.
أهم هذه الرسائل أن طرابلس في عهد حكومة الدبيبة، أصبحت آمنة وبإمكانها استقبال شخصيات لها ثقلها الدولي على غرار رئيسة الوزراء الإيطالية، ومدير الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز، ما سيشجع زعماء دوليين لزيارة طرابلس، ويعزز شرعية حكومة الدبيبة.
إذ إن شرعية حكومة الدبيبة، واستقرار العاصمة الليبية تعرضا لامتحان قاس من وزراء الخارجية العرب، عندما غاب أغلبهم عن الاجتماع الذي عقد في طرابلس برئاسة نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية الليبية.
وإشراف حكومة الوحدة على توقيع اتفاقية غازية مع إيطاليا تكون بذلك ردت على كل من اليونان ومصر اللتين رفضتا توقيعها اتفاقية مع تركيا بشأن التنقيب عن النفط والغاز، في أكتوبر الماضي.
ومن شأن ذلك، أن يشجع دولا أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا لتوقيع اتفاقيات مماثلة، في ظل سعيها لتأمين احتياجاتها من الغاز بعيدا عن روسيا.
اعتراض
رغم أنه أحد أعضاء حكومة الوحدة، إلا أن وزير النفط محمد عون اعترض على الاتفاق، وساق لذلك عدة مبررات من بينها أن “مناصفة التكلفة الاستثمارية في هذا المشروع من خرينة الدولة وبين الجانب الإيطالي أمر مجحف”.
ورفض أيضا زيادة حصة إيني في المشروع من 30 بالمئة في الاتفاق الموقع في 2008، إلى 37 بالمئة في الاتفاق الجديد، واعتبر أن الاتفاق يفتقد إلى “الندية” بين الجانبين.
كما أثار وزير النفط الذي لم يحضر مراسم التوقيع، تمرير الاتفاق عبر مجلس الطاقة بدل وزارة النفط، ما اعتبره سلبا لصلاحياتها.
وقد يكون عون، محقا من الناحية الاقتصادية وربما القانونية، لكن إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية سياسية أو كلية، فإن مؤسسة النفط كانت مضطرة لتقديم تنازلات لإقناع إيني للعودة لتطوير الحقلين الغازيين، فمع اشتداد المنافسة لم تعد الشركات العالمية تهتم بالنشاط في الدول التي لا تملك قوانين أكثر جاذبية للاستثمار، خاصة بعد تحويل هذه الشركات استثمارات أكثر نحو الطاقات النظيفة.
ورئيس مؤسسة النفط صرح في لقاء تلفزيوني أن “ليبيا لديها الاحتياطي الأول من النفط إفريقيا، ونسعى لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية”.
ومن الناحية السياسية، فإن الدبيبة بحاجة إلى حليف أوروبي قوي لموازنة الدعم الروسي والمصري لحكومة باشاغا، خاصة بعد مقاطعة دول عربية مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن والمغرب لاجتماع وزراء الخارجية العرب في طرابلس، إذ لم يحضر سوى وزيري خارجية الجزائر وتونس بالإضافة إلى وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري، بينما شاركت سلطنة عمان وفلسطين وجزر القمر بتمثيل دبلوماسي أقل.
فحكومة الوحدة كانت بحاجة إلى نصر سياسي لتأكيد شرعيتها الدولية، ولو كان الثمن زيادة حصة الشريك الأجنبي وتقاسم تكلفة الاستثمار وربما أمور أخرى.
لكن إيطاليا بحاجة أيضا إلى ليبيا لتعويض الغاز الروسي وتنويع مصادر الطاقة لديها، خاصة أنه لا توجد أي دولة إفريقية بإمكانها منفردة تعويض الغاز الروسي بما فيها الجزائر.