فوق التّراب ، أنجح في التنفّسُ بانتظام ،
“السّترونج آنديبندنت وُومن” ليست صَيحة مُوضة و لا حالةً خارقة للطبيعة، كلُّ ما في الأمر أن ربط صِفتَي القوة والإستقلالية بالنساء يجعلها تبدو إمّا هذا أو ذلك في مجتمع نشأَ على ألاّ يرى النّساء خارج فكرة “الضعف و التّبعية”.إنّها سيرورة لا رجعة عنها ، و لا تعليق لها: لن تستطيعي العودة إلى ما قبلها و لا أخذ إجازةٍ منها !الأمر لا يتعلق بالإستقلالية المالية فحسب ، تلك هي الحلقة الأسهل ، الأهمّ هو إستقلال الفكر و الإرادة. و لذلك ستجدين فريقا من الناس غاضبين ، هؤلاء يخشون أن تكون النّساء قويات و مستقلاّت.
تخيَّلوا أن يستكثر أحد على رجل أن يكون قويًا و مستقلاًّ ! و آخرون سيغبطونك ، و في حالات أخرى سيكرهونك. لا تبادليهم الكراهيّة . كلّ ما في الأمر أنّهم لا يعرفون أنّ ما أنتِ عليه ضريبته باهضة : من دمكِ و لحمكِ و نفَسكِ.
ستتعبين. نعم. لكنّك لن ترغبي أبدا في أن تكوني على غير ما أنتِ عليه.يتسرّب التّراب إلى حلقي، أحاول أن أقاوم، أصارحكم. نحن تعيسات. لم أكُن أكثر تعاسة مما كنته هذا الصباح. عندما إستيقظت ، مكثتُ مكاني بلا حركة و نظرتُ إلى السّقف طويلا خائرةَ القوى: ماذا جنيتُ من هذا الطريق الطويل المُنهك. أنا ضعيفة بعدً.
أمسُ صباحًا ، في الطريق إلى العمل ، دخلتُ متجرًا لشراء شيء. أطلَّ من الشّباك رأسٌ قال إلى البائع: “صحة ليك.. آنستك بيها” مع ضحكة خبيثة. شُلِلتُ. لم أستطع أن أنبُس بكلمة ، و مضيتُ دون أن ألتفتَ ورائي مع مرارةٍ لازمتني طيلة اليوم.
الشّارع الذي يستطيع ، بتعليق سخيف، أن يشعركِ بالخجلِ كأنّك دخلتِ فراشَ رجلٍ لا تعرفينه ، لا حانوته، كانَ أقوى مني !
أمسُ مساءً و أنا أقرأ عن جريمة إغتصاب الضحية “رحمة” فكّرتُ في المرّات التي حثثتُ فيها خُطايَ في الطريق خوفًا من شبحٍ يمشي خلفي، في المرّات التي عدتُ فيها إلى المنزل بعد يوم عمل ثقيلٍ و منهكٍ عوض أن أركض في الطريق أو أقرأ كتابا في حديقة عمومية أو أرتادَ نادٍ للغناء أو المسرح لأنّني خفتُ ألاّ أعود إلى المنزل سالمة ، في المرّات التي خيّرتُ فيها قضاء نهاية الأسبوع في غرفتي لأنّها أكثرُ أمانًا من الشارع ، في المرّات التي هربتُ فيها من فضاءات شعرتُ فيها أنّني غير مرتاحة و في كلّ المرّات التي أضطررت فيها لأن أغيّر مشيتي أو أكتم ضحكتي أو أنظر بلؤمٍ للناس في الشارع معتقدةً أنني هكذا أحمي نفسي.
الشارع قضى ليلته في رأسي . و غرفتي لم تعد آمنة بدورها.نحن تعيسات أكثر من غيرنا، لأننا نحفر بأضافرنا في الصخر ثمّ نكتشف أنّ جهدنا لم يكفِ لنكون قويّاتٍ حقًّا.تحتَ التّراب مع أنّني مازلت أتنفّس، أعرف هذا المشهد جيدا: الوأد.. ماذا يكون العنف/الإغتصاب غير ترجمة عمليّة لفكرة فحواها أنّ لنا سلطة تاريخية على النّساء ، على أجسادهنّ أساسًا ! تقفّي خطواتهنّ ، تتبّعهن ، مراقبتهنّ ، إنتقادهن ، رسم الخطوط التي لا يجب أن ينحرفن عنها ، وضعهنّ في قوالب متشابهة ضيّقة مغلقة، إمعان النظر فيهنّ ، تشيئتُهنّ ، تهديدهنّ ، تعنيفهنّ، وصمهنّ بأنّهن “أكثر أهل النّار” ، معاقبتهنّ على كلّ شيء ، إمعان النظر فيهنّ مجدّدا ، مضايقتهنّ ، إرغامهنّ ، إهانتهنّ ، إستغلالهنّ ، إرهابهنّ ، تقييمهنّ ، منحهنّ صكوك “الإستقامة” و سحبها منهنّ حسب الهوى ، إمعان النظر فيهنّ أكثر.. كلّ هذا فيه تبييض للأذى ، شرعنَة للأذية ، و تشجيع على التّمادي فيها.
كلّ من يفعل هذا أو يتسامح معه أو لا يحول دونه قدر استطاعته، من رجالٍ و نساءٍ ، هو شريك / هي شريكة في كل حادثة إغتصاب حصلت و ستحصُل. كلّ من يعتقد أنّه أقرب منّا إلى الجنّة ، و أحبُّ منّا إلى الله ، و أحقُّ منّا بالحياة أو العمل أو المال أو النجاح هو آثمٌ بقدرِ المغتصب.
كلُّ من يُضيّق علينا الشارع ليُشعرنا بأنّنا اقتحمنا فضاءً لا حقَّ لنا فيه و أننا سنعاقب على تطفّلنا على مجال مملوكٍ تاريخيا لغيرنا هو مسؤول عن معاناتنا.كلّ الأمثال الشعبية و السلوكاتِ و الكلماتِ و “الفتاوى” و الأفكار التي تكرّس هيمنة المذكّر على المؤنّث و تؤصّل التمييز و تئِد النساء معنويا و رمزيا يجب أن توضع في قفص الإتّهام مع كلّ مغتصب.ما دونَ ذلك عبثٌ. سيكون هناك ما بعد رحمة ، كما كان هناك قبلها بلا شكّ . ماذا ننتظر من “مجتمع ملاحقة النساء” غير ملاحقة النساء؟
نصّ كتب في سبتمبر 2020
رحمة ونيّرة ضحيّتا تطبيعنا مع التمييز، كل أشكال التمييز مهما بدت بسيطة هي مساهمة في إطباقه على أنفاسنا.