ليلة البارحة عثرت على مقطع من حفل النوبة على قناتنا الوطنية فتوقفت عنده خاصة وأن فيه واحدا أعتبر أنه من أفضل وأرقى ما جاد به الفن في تونس، إسماعيل الحطاب، كان يغني “ما بين الوديان” ثم ما تبعها وكانت الخضراء ومنوبية وحبيبة يرقصن حوله ملء أحزمتهن وهو في تجاوب معهن هزّه إلى سكر دون شراب، كنت أتابع المرحوم إسماعيل الحطاب وأنا أهتز لاهتزازه وأتفاعل معه وأطبّل على الطاولة متابعا أنغام موسيقاه الجميلة بل إنني شعرت أيضا برغبة في الرقص والتخمر رغم أنني لم أكن يوما من الراقصين ولا من محبي هذا الفن.
كم هو جميل وتلقائي وصادق ذلك المشهد. لقد كان فيه المرحوم في قمة قمم السعادة. ربّما لم يكن طموحه وقتها يتجاوز حد إقامة ليلة ليلاء يطغى فيها صوتا الزكرة والطبل فحصل على ما حلم به وعاش لحظات فرحة لم يطلب بعدها غير الموت فنال موتته محبوبا من الجميع. ونال موتته وفيا لزكرته وطبله.
لم يكن إسماعيل الحطاب يرغب في أن يدنس تلك اللحظات الجميلة بسماع الغناء ومشاهدة الرقص الذي تعيش بلادنا على إيقاعه اليوم، فكان موته تكريما لبساطته وصدق نواياه وحبه لفنه الذي عاش به ومن أجله وشعوره وقتها بفرحة الحياة.
واضح أنه كان سيموت الف موتة وبأشنع ما يكون لو أن ما عاشه وقتها من سعادة ديس اليوم على أنغام أغان بعناوين مزيفة لما يسمونه حرية وديمقراطية وانتخابات وأحزاب وبرنامج وقانون و استشارة وتوافق وتنمية وثورة وانتقال وإدماج وتأهيل واعتصام ووقفة احتجاجية وكل هذه المصطلحات التي يجترونها كل يوم ولم يشعروا بعد، بل لم يفهموا أنها صارت ركيكة بليدة ثقيلة أكثر من ركاكتهم و بلادتهم و ثقلهم الذي يسلطونه على حقنا في الراحة والطمأنينة، أقصد نحن أبناء هذا الشعب الذي انتهكوا حقه في الحياة حتى صار غير قادر على أن يرقص هنيئا على أنغام إحدى روائع المرحوم إسماعيل الحطاب.
فعلا لقد انشد المرحوم روائع يعجز عن إبداعها تجار اليوم الذين لم يبدعوا إلا فن تمزيق الوطن إلى أشلاء. لذلك فقد نجح المرحوم في زرع السعادة ولم ينجحوا إلا في زرع البؤس والهم والغم في النفوس. وما يزيد همنا بوجودهم همّا هو أنهم مازالوا يعتقدون أنهم خفاف الظل علينا. إنهم لم يفهموا اننا ضجرنا من مناظرهم و قلقنا من رؤيتها حتى كرهناها بل كرهنا وجودنا معهم أصلا و سئمنا انعدام الكرامة والشهامة والرجولة والإنسانية لديهم فما أقبح أذواقهم وما أنكر أصواتهم وما أفسد طلعاتهم علينا ينهالون على رؤوسنا بنفاقهم وغشهم وأكاذيبهم التي أصبحت عنوان رذيلة يصرّون على امتهانها علنا وما زالوا يصرون رغم فشلهم الذريع في امتهانها.
نعم، لقد فشلوا حتى في “التمومس” في حين نجح المرحوم مغنيا راقصا في أن يعيش الفرحة ويهدينا أجمل لحظات الانشراح بكل ما في الدنيا من معان للبراءة والمحبة والخير، فيستقطب بصوته وحزامه حب الناس، و ينالوا هم بخطبهم و تنظيرهم وتمثيلهم كره الجميع. لقد كان هو الصادق الكريم وكانوا هم الكذابون الأنذال.
اقرؤوا واسمعوا ما أنشد المرحوم أيضا وما قال في ذات أغنية:
“عيني رات خيال فوق الربوة.. تحلف جدي غزال راضع لبوة”
خيال: هي عنوان الرقة والصفاء
فوق الربوة: إشارة إلى العلو والسمو
تحلف: تأكيد الثبوت
جدي غزال: صورة للجمال الأخاذ والبراءة والسلم
راضع لبوة: إشارة إلى الشدة في حفظ الشرف
من تكون هذه الرقيقة الصافية العالية السامية الثابت عنها جمالها وبراءتها وحبها للسلم وشدتها في حفظ شرفها؟
قد لا تكون عند المرحوم سوى فتاة عشقها بتلك الصفاة.
ولا يمكن أن تكون في حقيقة الأمر إلا تونسنا العزيزة التي ستهزم كل كذاب نذل وكل متاجر محتال.
عشر كلمات غناها المرحوم تقدم أجمل صورة وتزرع حب الحياة وتنشر بذور السعادة والأمل.
وعشرات الخطب الطويلة المملة يقذفوننا بها كل يوم فتزرع فينا الكره والأنانية وتمهد للفتنة والتناحر حتى بين الأب ووليده.
ما أجمل الحياة مع صوت المرحوم، وما امقتها مع أصوات الغربان والبوم.